الأحد، 7 سبتمبر 2008

ميونخ ..مجرد فيلم أم رسالة مطلقة؟

كعادتي كل عطلة أسبوعية ألجأ إلى أي وسيلة ترفيهية لأعوض بها ما مر عليا طيلة الأسبوع من تعب وإجهاد في العمل بساعات من المتعة ..كان موعدي هذا الأسبوع مع فيلم لطالما اقتنعت بعدم مشاهدته ..لأني كنت واثق من أن هذا الفيلم هو صورة مستنسخة من سابقيه في مهاجمة العرب بطريقة مليئة بالأكاذيب والاستفزاز مع قليل أو كثير من الحقارة .. لأنه يحكي عن أحد عملياتنا الفدائية وهي العملية التي حدثت في الدورة الأولمبية ميونخ 72 والتي تم فيها قتل بعض الأولمبيين الصهاينة.لكن فيما يبدو أنه بسبب المحاصرة الشديدة من كل أنواع الملل جعلت مني هدفاً سهلاً لهذا الفيلم الذي لطالما تجنبت مشاهدته ..تناولت السي دي الخاص بهذا الفيلم محاولاً عدم الاكتراث لصورته الخارجية التي يظهر فيها بطل الفيلم ماسكاً مسدسه بعيون مليئة بالصبر والقوة ومظهر عام يوحي لك بأنه صاحب حق..يجعلك بطريقة أو بأخرى تستفز وتتجنب مشاهدة الفيلم نظراً للموروث الثقافي والتاريخي والاجتماعي عندنا معشر العرب من هؤلاء السفاحين ..تم تشغيل الفيلم وجلست أمامه محاولاً الحفاظ على هدوء أعصابي مما سوف أشاهده من صورة مغلوطة عن العرب أو عن الإسلام..وبالأخص أن هذا الفيلم تم إنتاجه العام الماضي في ظل الموجة العالمية في محاربة الإرهاب المزعوم وكراهية العرب والمسلمين..لكنه حدث ما كان غير متوقع ..حقيقة لقد أجبرني ستيفن سبيلبرج الجلوس لمدة ساعتين وسبع وثلاثون دقيقة كاملة دون كلل أو ملل .. أعانه في ذلك سيناريو بدرجة عبقري للرائعان توني كوشنر وإيريك روث..مع موسيقى تصويرية ليس لها إلا العبقري جون وليامز مزجها سبيلبرج مع الأداء وانفعالات الأبطال والأحداث بطريقة تشعرك أنك جزء لا يتجزأ من الحدث ..حقيقة لقد تفوق سبيلبرج على نفسه في هذا الفيلم ..بسبب مدى الحيادية الذي كان على أعلى مستوى ..عندما تكون الكاميرا بين يدي الصهاينة فإنها تتحدث بلهجتهم وبكلامهم المعروف ..وعندما تقفز الكاميرا حتى ولو بسرعة البرق لتصبح بين يدي عربي فإنك تجد نفسك تردد ما يقوله بنفس الحجة وبنفس المنطق..تفوق السيناريو وإخراج سبيلبرج كان محوره يكمن في النجاح الساحق في تقمص جميع الأدوار دون تزييف أو مبالغة..بل كانت قمة هذا التفوق والتألق في المشهد الذي يجمع بين علي أحد أعضاء منظمة سبتمبر الأسود الفلسطينية المسئولة عن عملية ميونخ وبين الضابط الإسرائيلي أفنار المنوط له قتل جميع قادة هذه المنظمة عندما جمع بينهما الفرنسي لويس دون أن يعرف علي بحقيقة أفنار..ليدور بينهما حديث في منتهى الواقعية ..بين الفلسطيني الذي على أتم الاستعداد للقتال مئة عام من أجل قضيته التي يظن الكثيرين من الحمقى أنها خاسرة ..المؤمن بها أتم الإيمان.. المقبل على أي حياة يختارها له قدره نتيجة اختياره الجهاد من أجل وطنه ومن أجل أن يرى العالم فداحة الظلم الذي يقع على الفلسطينيين..الذي على ثقة تامة أنه إذا مات سوف يحل محله آخرون يكملون المسيرة حتى النصر..وبين أفنار الذي يعتقد ككل الإسرائيليين أن فلسطين ملكهم وأنهم الأحق بها ..وأنهم على أتم الاستعداد للقتال للحفاظ على هذا الوطن الذي سلبوه من الفلسطينيين .حوار في قمة العبقرية بين الرجلين يعبر وباختصار شديد عن عقلية الفلسطيني العربي المسلم..وبين عقلية اليهودي الصهيوني ..لينتهي بمشهد اقتتال الرجلين عندما يعلم علي بحقيقة أفنار في جو كئيب أضفاه سبيلبرج له بموسيقته التصويرية وتصويره البطيء..يريد منه أن يقول أن الحوار بين الطرفين خير ألف مرة من الاقتتال..وهو الوتر الذي يلعب عليه طيلة الفيلم..ليقتل بعدها أفنار المجاهد علي في مشهد مأسوي ..ناهيك أيضاً عن لحظة الحقيقة التي كان بطلها كارل وهو المسئول عن عمليات التطهير في فريق الاغتيالات الإسرائيلي ..وهو رجل كبير في السن قضى ابنه نحبه في حرب 67 يعشق إسرائيل ..لكنه دائم القلق دائم التفكير والتحليل..لحظة الحقيقة كانت عندما واجه كارل زملاءه الذين كانوا يتهمون الفلسطينيين بأنهم أول من بدأ حمام الدم قائلاً وهل عندما جئنا إلى فلسطين قلنا لهم بمنتهى اللطف اتركوا أرضكم لنا ..ليرسم بعدها مجموعة من علامات التعجب على وجهه تهكماً ..ليقطع هذا الصمت ستيف اليهودي المتعصب الذي لا يجد رداً على الرجل سوى اتهامه بعد الولاء لإسرائيل وأنه شخص جبان وجب إقصاءه من المجموعة ..ثم يصل سبيلبرج إلى هدفه من الفيلم عن طريق ما حدث إلى فريق الاغتيالات الإسرائيلي الذي تحول من مطارد للفلسطينيين إلى مطارد منهم..ليقول سبيلبرج شيئاً واحدا فقط أن بحر الدم لا آخر له إذا أبحرت فيه سفن الغضب..وأن لكل فعل رد فعل أقوى منه وأبشع..وأنه كما يعتقد الإسرائيليين بأن الدم اليهودي غالي وثمين ..فإن الدم الفلسطيني ليس بالشيء المباح وأن الرد سيكون قاسي منهم..وأهم ما نجح سبيلبرج في طرحه هي قضية شبكات الجاسوسية وأجهزة المخابرات العالمية التي من أجل مصلحتها قد تضحي بأي شيء ..مثل مساعدة السي آي إيه الأمريكية لسلامة المطلوب الأول لإسرائيل في مقابل تعهد سلامة عدم التعرض للرعايا الأمريكيين في الخارج ..ثم الفرنسيان لويس وأباه نموذجا الانتهازية والجشع..الذي يبيعون أي شيء مقابل من يدفع أكثر فقط..وأن هؤلاء هم المنتفعون الحقيقيون من استمرار هذه الحرب ..ناهيك عن نجاح سبيلبرج في إيصال حقيقة هامة وهي أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بدءً من بن غوريون مروراً بجولدا مائير صاحبة أمر تحرك فريق الاغتيالات حتى الآن هي حكومات حرب وليست سلام ..وأظن أن سبيلبرج قصد ذلك بدليل ذكر اسم ايهود باراك بالتحديد من ضمن 30 إسرائيليا ذهبوا لاغتيال الثلاثة فلسطينيين في لبنان..ثم يختم سبيلبرج فيلمه بين مشهدين مختلفين وهما الاقتتال والحب يقوم بإدخالهما في بعضهما ليوصل المشاهد إلى جدول مقارنة عما يريده المخرج وهو الهدف الأساسي للفيلم بين كراهية الاقتتال والدعوة للسلام ..بعد هذه المشاهدة من الفيلم ..تبقى لي ثلاث ملاحظات وهم :-1- أن سبيلبرج عندما حاول أن يكون حيادياً في هذا الفيلم نسب إلى الموساد شيئاً ليس فيهم وهو الرحمة والإنسانية ..في مشهدين مختلفين عندما ركض أفنار بكل قوة في باريس ليمنع صديقه ماثيو من تفجير شقة الهمشري في باريس بسبب وجود ابنة الهمشري معه في الشقة..والأخرى عند رفضه التصفية الجسدية لابن أحد القادة الثلاث الذي تم تصفيتهم في بيروت .2- أن سبيلبرج لم يدرس العقيدة الإسلامية والشخصية العربية بالشكل الكافي بالرغم من كل الاحترام والمصداقية التي ظهر بها العرب في الفيلم ..وذلك لأنه يجهل شيء هام جدا..أن العرب والمسلمين بما فيهم أنا نرفض بشكل قاطع أي سلام مع الصهاينة ولن يهنئ لنا بال حتى يتم تحرير فلسطين منهم ..وأن كل صهيوني على هذه الأرض هو محتل وعدو ويستحيل أن يكون بيننا سلام .3- أن سبيلبرج برغم روعة ما قدم ..إلا أنه نسي حقيقة هامة وهي أن احتلال أرض ما ليس لها حل إلا تحريرها ..وليس السلام التام كما يريد..ولا يوجد أي شعب في العالم يجنح للسلم وأرضه محتلة وشعبه يقتل .

ليست هناك تعليقات: