كثير من المظاهر الإنسانية المصرية يجب التوقف أمامها والتأمل في حالها ، فهي برغم تفردها بعديد من الصفات إلا أنها ليست شذوذاً عن النفس البشرية في العالم كله والذي قد يتوازى معها في بعض الأمور ويتقاطع معها في أخرى ..
لكن الذي يجذبني كل مرة وأنا أرى أو أسمع أو أتكلم مع أي مصري هي هويته الدينية الطاغية أو ادعاءه اللادينية المطلقة في صورة مسلم بطراز جديد !!
الطريف في الأمر أن كلا الأخوين بريء تماماً مما ينسبه إلى نفسه .
فتجد المتشدد أو المتدين هو شخص بعيد تماماً عن جوهر وروح الإسلام بمعناه المقصود وليس المطاط المتداول حاليا في وسائل الإعلام ؛ لترى مسلمين كل همهم في الحياة هو الحفاظ على الصلوات الخمس في ميعادها وختم القرآن كل يومين أو ثلاثة أو الصوم الدائم أو الاهتمام بالهدي الظاهر للمسلم من جلباب ولحية وخلافه ، والاستماع الدائم والمستمر لعلامات الساعة الكبرى والصغرى ، دون أن يزاحمه في هذه الأولويات الصحيحة أولويات أخرى مثل حب التعلم والتثقف والنجاح والتقدم .
أتذكر أنه كان يسكن في البناية المقابلة لنا شاب كان يعمل بالتدريس للغة العربية يملك شقة أهداها إياه والده ليعيش فيها وحده ، وبعد أن تدين ترك وظيفته التعليمية ليقوم بعدها ببيع السواك والعطور الزيتية والكتيبات الدينية أمام أبواب الجوامع ليعود بخمسة أو عشرة جنيهات على الحد الأكثر في آخر يومه ليسد بها جوعه ، وقد بلغ سن الأربعين دون زواج بالرغم من توفر كل الإمكانيات اللازمة لذلك .
كثيراً ما اعتبر هذا الشخص هو نموذج لحالة يعيشها كثير من شبابنا الذي ارتضى الزهد والخنوع في الحياة متعللاً بترك الدنيا لأصحابها ليصبح عندنا طابور هائل من الدراويش الذين انتحروا اجتماعياً بحجة التقرب إلى الله بطريقة لم يطلبها الله من عباده .
على النقيض من ذلك تجد كثير من الشخصيات الأرستقراطية التي احتكت بالحياة الغربية أكثر منها الشرقية ، الذين تأثروا بحرية الغرب اللامحدودة ولم يتأثروا بفكره وعلمه ، الذين اعتقدوا أن الحل الوحيد لمصر هي ثورة صناعية على غرار الثورة الفرنسية الأم وعلمنة البلاد وممارسة إرهاب مضاد على أي نشاط ديني يذكر ، ليكونوا هم الوقود الحقيقي الذي تستخدمه السلطة دائماً بوعي أو بدون وعي في محاربة المد الإسلامي المصري من خلال الفضائيات والجرائد التي يملكونها تماماً .
الغريب في الأمر أنهم لسبب ما ، إما خوفاً من المجتمع أو التدرج في نشر الإلحاد فيه يدعون دائماً أنهم المسلمون الحقيقيون .
وأن قوى الظلام والرجعية وغيرها من التهم الملصقة بالإسلاميين حتى لو أصبحوا جميعا أساتذة جامعات هم جميعاً على الدين الخاطئ .
فتجدهم ينحلون من أغلب فروض الإسلام من الحج والحجاب والزكاة وآذان الصلاة والذهاب إلى المساجد وغيرها من الفروض ، بل ويحاربونها بحجة أنها ما أنزل الله بها من سلطان ، ثم يختزلون الدين فقط في بعض المظاهر الإنسانية الفطرية من الحب والتسامح وعمل الخير وغيرها من المظاهر .
وبين هذا الطرف وذاك تجد الشخصية الثالثة وهم عوام الناس أو مجملهم ، فتجد شخصية مسلمة غيورة على دينها ، لا تعلم من الدين إلا قشور القشور ، متكاسلة عن أغلب الفرائض أو مؤدية لها بجهل ، تفعل الصواب ونقيضه في نفس الوقت .
عجيبة جدا هذه الشخصية ، فمثلاً تجد المرأة ترتدي الحجاب ثم تلبس البنطال الضيق وتخرج من دون علم أهلها مع شاب ما ليتسامروا على كورنيش النيل حول الحب وسيرة الحب ، أو تجد الموظف يأخذ الرشوة في الساعة الحادية عشر صباحاً ليقوم بعدها بساعة واحدة ليتوضأ ويصلي الظهر ثم يعود ليأخذ الرشوة بعد صلاة الظهر وهكذا دواليك ، فتنهاه عما يفعله ، تجد بعدها ثور هائج ينهرك عن نصحه ويعدد لك أسباب فعلته الشنعاء ثم يختم ثورته بكلمة ( بكرة هنقابل رب اسمه الكريم ياسيد ) ، تجد الحاجة فلانة أو الشيخ فلان متخصص في عمل الأسحار والحل والربط ، أو تجد الحج فلان التاجر الكبير الذي حج بيت الله سبع مرات أو أكثر يقيم فرحاً لابنه البكر بنصف دستة من الراقصات ويقول لك ( إحنا عايزين نفرح يابيه ) ، هذا غير تجمع الأسرة بعد أداء صلاة التراويح في رمضان أمام المسلسل الدرامي للراقصة الشهيرة على قناة ما ليتمتعوا بمشاهدتها وهي تتلوى كالثعبان عارضة جل مفاتنها !!!
شيزوفرينيا الشخصية أو الهوية الدينية المصرية غريبة عجيبة ، قد يكون المصريين هم من تفردوا بهذا الانفصام أو شاركهم فيه أحد ، لكنه داء ، وداء مقزز ومفزع ، فحينما يتحول وطن بأكمله إلى اختلاف ظاهره عن باطنه فهنا مشكلة اجتماعية كبيرة وعميقة قد تؤدي إلى انحلال تام أو تزمت تام .
ولا مناص من ذلك إلا حركة تنويرية حقيقية يقوم بها علماء دين حقيقيون ، ومجتمع يحكمه قانون يكفل الحرية والأمان للجميع ، وشفافية مطلقة في طرح الأفكار والرؤى من جميع الخصوم الفكريين يكون الحكم الوحيد فيها هو المتلقي من عوام الناس ليميز الخبيث من الطيب .
شيزوفرينيا الشخصية الدينية المصرية هي هدم لبلادي وليست بشيء عادي ، ظاهرة يجب أن يتم التصدي لها ومحاربتها والوقوف على أسبابها ومعالجتها ، وليس التغاضي عنها وتدعيمها بتقوية الأسباب المؤدية لها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق