خلال العصر الحديث لمصر منذ 1517 م حتى تولي محمد علي الحكم كان التعليم قاصراً على العلوم الدينية فقط من خلال الأزهر والكتاتيب ..حيث عاد سبب ذلك إلى رغبة العثمانيون في بقاء من هم تحت وصايتهم أو ولايتهم في جهل تام كحال أي مستعمر لأي بلد في العالم هذا إذا أخذنا في الاعتبار خروج العثمانيون عن نهج الخلافة المتوارث إسلامياً إلى نهج المستعمرين المتوارث أوروبياً ..
بعد الثورة الصناعية الأوروبية وبالأخص الفرنسية والتي أدت إلى انقلاب كثير من دول أوروبا تباعاً على عصور الجهل والتخلف وهو ما يسمى حالياً كمصطلح باسم " العصور الوسطى " إلى ما يسمى بعصر التنوير والنهضة ...
لم تكن معضلة الغرب في شيء سوى تحكم الباباوات ورجال الدين في مقادير البلاد وفي إعلان الحروب والسلام وفي وضع حدود للفكر والتعليم ..كان الوضع مزعجاً لكبار الساسة الأوروبيين والمثقفين وحتى عوام الشعب من تحكم هذا النظام الثيوقراطي في بلادهم وجرهم باستمرار إلى قيعان بحور الظلام والجهل..
وكحال كل أمة عندما تظهر لها مخالب تهب لتفترس من هم أضعف منها وتقف على رؤوسهم ورؤسائهم !!..وجاء نابليون بونابرت على رأس حملته الفرنسية ليحتل مصر ..وبالرغم من مرارة الاحتلال وما تكبده الشعب المصري من دماء فداءً لهذا الوطن فإن لكل وجه قبيح بالرغم من قبحه وجه آخر مشرق ..حيث دخلت مصر عصر العلم الحقيقي ..هذا إذا اعتبرنا أن النظام العثماني كان شبيهاً إلى حد كبير مع النظم الثيوقراطية الأوروبية قبل الثورة الفرنسية ..جاء دخول الحملة الفرنسية بدخول المطبعة مصر حيث جلبت الحملة معها مطبعة فرنسية وأخرى عربية هذا غير ما جلبته معهم من علماء ليستمروا في مصر 3 سنوات نقلوا فيها العديد من العلوم والثقافات التي حجبها العثمانيون عن المصريين آنذاك...وزاد من رتم النهضة في مصر تولي محمد علي الحكم ..
في الحقيقة إن محمد علي شاء من شاء وأبى من أبى يعتبر من أهم خمسة حكام حكموا مصر على مدار التاريخ لما لهم من آثار وبصمات واضحة في تشكيل حاضر هذا الوطن وماضيه ومستقبله ..
قام محمد علي بإنشاء المدارس الابتدائية وأخرى لتعليم البنات مثل مدرسة السنية إلى جانب المدارس الأهلية الخاصة إلى جانب الكتاتيب في القرى والنجوع ، وإنشاؤه العديد من المدارس سواء العسكرية أو المدنية مثل مدرسة المهندس خانة وأخرى للطب …. الخ مع إرسال العديد من البعثات العلمية للخارج للحصول على شهادات في كافة فروع العلم مما أوجد العديد من رواد الحركة العلمية والعملية في مصر في الطب والصيدلة والهندسة والزراعة وبدء عصر النهضة الحديثة في مصر وبدأ في مصر الاهتمام من الإنسان المصري بالعلم والتعليم وأصبح المتعلم ذو مكانة عالية ومقام رفيع وحرص معظم المصريين على تعليم أبنائهم على اعتبار أن هذا هو الطريق الوحيد لتحسين أوضاعهم الاجتماعية بل والاقتصادية .
ومع دخول مصر القرن العشرين بدأ في إنشاء الجامعات وكانت أول جامعة هي الجامعة الأهلية ( القاهرة الآن) وكان ذلك عام 1914 ثم توالى إنشاء الجامعات المصرية مثل عين شمس والإسكندرية وأصبحت بمصر الآن 17 جامعة إلى جانب الكليات والمعاهد العسكرية والأزهرية والفنية وأصبح طلاب العلم الآن بالمدارس والجامعات سنوياً ما يقرب من 17 سبعة عشر مليون طالب وطالبة .
في الحقيقة لم يكن هذا السرد التاريخي من باب الترفيه وقصص ما قبل النوم ..لكن هو سرد للوقوف على أسباب الانحطاط والتدهور في مستوى التعليم المصري ...بل تردي حال ووضع العلم والعلماء والمتعلمين ..!!
في الحقيقة إن الناظر لحال الإنتاج العلمي المصري حالياً يجده صفراً بل يكاد يكون تحت الصفر ..
· عدد الأميين في مصر يتراوح ما بين 14 إلى 17 مليون مصري حسب آخر تصريح لرئيس الهيئة القومية للإحصاء في حين أن دولة مثل كندا أعلنت رسمياً القضاء على الأمية الإلكترونية بوجود حاسب آلي لكل فرد ..!!
· ترتيب الجامعات المصرية من بين أفضل 500 جامعة على مستوى العالم لم يكن موجود بل كان بعد الألف والأربعمائة ولم تكن جامعة مصرية بل كانت الجامعة الأمريكية بالقاهرة في حين أن دولة مثل إسرائيل لها ما لا يقل عن 7 جامعات وفي ترتيبات متقدمة بين الجامعات القمم..هذا إذا استثنينا دخول جامعة القاهرة هذا العام ضمن أفضل 500 جامعة بسبب حصول المصري محمد البرادعي على جائزة نوبل للسلام وهي مكافأة الولايات المتحدة له على مجهوداته الجبارة في كسر شوكة إيران ..
· المعلم المصري أصبح في أدنى السلم الاجتماعي من حيث المكانة المادية والمعنوية وأصبحت من المهن الدنيا ..
· سوء مستوى وإمكانيات المدارس والجامعات والمعاهد الحكومية والخاصة بالرغم من كثرتها !!.. بل تحولت إلى محطة للأشقاء العرب لشراء الشهادات المزيفة بعد ما كانوا يأتوننا رغبة في التعلم ...!!
· ضعف ميزانية البحث العلمي في مصر التي تتراوح بين 0.3-0.5 % من الميزانية العامة للدولة ..في حين أن مواكب المسئولين في مصر تكلف الدولة ما بين 2-4 مليار جنيه سنوياً ..وفي حين أن دولة مثل إسرائيل تصرف على البحوث المدنية فقط دون العسكرية ما يقرب 4.56 مليار دولار بالرغم من المساعدات المقدمة لإسرائيل من دول أوروبا وأمريكا ..!!
· عدد الباحثين المصريين لا يتجاوز أكثر من 20 ألف باحث وفي حال مزري وبائس يعانوه من ندرة الإمكانيات وتجاهل الدولة لقيمتهم ..في حين أن عدد المشعوذين المصريين يتجاوز 300 ألف مشعوذ ودولة مثل إسرائيل بها ما يصل إلى 600 ألف باحث ..!!
· الجو العام العلمي في مصر لا يساعد بتاتاً على الخلق والإبداع ..بل هو جو خانق بسبب تكدس العدد الرهيب من الطلبة في المنشآت العلمية وقلة الإمكانيات بل وجود مدارس ليلية لاستيعاب العدد الهائل من الطلبة .
· أفضل كتاب مصري يحرز نسبة عالية من التوزيع هو بأن يوزع ألف نسخة ..في حين أن كتب الشعوذة وكتب الطبخ والكتب الدينية الغير منهجية وعلمية ولم يكتبها علماء متخصصون بل هم دجالون تحقق أعلى مبيعات !!
· الدروس الخصوصية في مصر تكلف المصريين 12 مليار جنيه حسب آخر الإحصاءات.. تدخل جيوب فئة معينة من المصريين ولا تخرج منها في دورة اقتصادية صحية مما يفقد الاقتصاد المصري قوة مالية هائلة .
ما سبق كان رسم مبدأي للواقع العلمي الحالي في مصر ..بدون أي تهويل ومع كثير من الإيجاز ...
في الحقيقة وبعد الوقوف على ملامح هذه الصورة القاتمة لهذا الوضع المزري وجب معرفة أسبابه .. للوقوف على الحلول ..
أتذكر كلمة قالها الكاتب الكبير والصحفي النزيه إبراهيم عيسى أن من وضع سياسة التعليم في مصر هو شخص أخبث من إبليس ..واستطرد قائلاً أن من وضع هذه السياسة هدف إلى وضع المواطن المصري في حلقة مفرغة من الجهد والتفكير ليبتعد بشكل كاف عن شئون الدولة والتحدث عن حكامها أو معرفة حتى ما يدور من حوله ..فالمواطن المصري ( رب الأسرة ) يعمل ليلاً ونهاراً من أجل تسديد ثمن الدروس الخصوصية ورسوم المدرسة الخاصة التي ذهب بأبنائه إليها خوفاً عليهم من جحيم مدارس حكومة المحروسة .. الأم أو ربة الأسرة إن لم تكن تعمل فهي تعيش في جو من القلق الدائم على أحوال أبنائها التعليمية ..الأبناء وهم من سن 16-22 وهو سن الثانوية العامة والجامعة لا هم لهم سوى الاستذكار والدراسة ليل نهار من أجل المرور من الامتحانات وإرضاء الأهل الذين حولوا جو منازلهم إلى غيوم ملبدة بالقلق والرعب والهلع ..والابن المسكين يجد نفسه أمام ترسانة من المناهج العقيمة التي تعتمد على الإسهاب و الحشو حتى لا يجد الشاب المصري لحظة للتفكير في أي شيء آخر ..وإذا وجد فهو محاصر بكم رهيب من قنوات الترفيه وبيع الأحلام الخيالية من الأغاني إلى الأفلام اللذان أصبحا لا يقدمان سوى الغث وكل ما هو بعيد عن الواقع إذا ما استثنينا فيلم عمارة يعقوبيان الذي حاول ولو قليلاً إعادة دور السينما المصرية لمسارها الذي تاهت عنه منذ عقدين تقريباً ..
ثم تنتهي هذه الرحلة المأساوية بانتهاء الابن إلى شخص عاطل ..في الحقيقة هي لا تنتهي بل تبدأ في قتل كيان الأسرة بكل ما بها من طموح وحلم وإرادة ورغبة في الحياة أو الإحساس بها .. وهو حال السواد الأعظم من شباب مصر وفلذة أكباد هذا الوطن ..
عزيزي الأستاذ إبراهيم عيسى أراك قد وصفت كل مرحلة في هذه الحلقة المفرغة بدقة متناهية ..نعم لقد قام الأبالسة بقتل هذا الوطن ..
نعم يا سادة إذا تم قتل الطموح في قلوب الشباب وتم تحويل العلم من غاية إلى وسيلة ومن ثم تحويل الوسيلة إلى سراب هو قمة دمار هذا الوطن ..
هل تعلمون أن دولة مثل مصر تعتبر السابعة عشر على العالم في عدد خريجين الجامعات ..وهنا لي وقفة عزيز القارئ حيث يستوجب توضيح الفارق بين مفهوم الخريج والمتعلم والمثقف ..
- الخريج هو الشخص الذي تلقى تعليمه في الجامعة وحصل على شهادة منها لكنه لم يحظى من دراسته في الجامعة أو طيلة حياته التعليمية سوى هذه الورقة التي هي أثقل بجراماتها القليلة من وزن العلم في رأس الخريج .. وهذا هو حال 98% من خريجين مصر .
- المتعلم وهو الشخص الذي تخرج من الجامعة ولكنه متفوق في علمه ويتقنه بشكل جيد وهو حال معظم خريجي أوروبا وأمريكا والعالم المتقدم ويندر جدا وجوده في مصر ..
- المثقف وهو الشخص المتعلم الذي يتقن فنون علمه وله حظ طيب من علوم كثيرة أخرى ليست مرتبطة بالضرورة من مجال تخصصه وهي نسبة لها حضور قوي في العالم المتقدم من البروفسيرات ودكاترة الجامعات ولا تتجاوز عدد أصابع اليدين في مصر ..!!
في الحقيقة دائماً ما كانت تضحكني حرم سيادة الرئيس مبارك بافتتاحها مكتبات ميكي ماوس كما أحب أن أطلق عليها في كل حي من أحياء المحروسة ..وهو حق يراد به باطل ..
فهذه المكتبات لا تقدم أي فكر علمي أو قيمة علمية لأي مصري إذا استثنينا مكتبة الإسكندرية والتي هي معظم زوارها من هواة القص واللصق للأبحاث حتى يتخرجوا أو يحصلوا على درجة ماجستير ودكتوراه ..
ولأن الناظر للوضع المصري يجد وبكل بساطة أن النظام المصري تكمن قوته في انتشار الجهل ..فمن الذي يحمي الحكومة يا قرينة الرئيس سوى عسكري الأمن المركزي الذي لا يتخطى حدود تفكيره في هذا الكون أوامر الضابط الغليظ المسئول عنه .. الذي نراه يقف 12 ساعة متواصلة من أجل حماية أمن زوجك وهو يمر بسيارته الفارهة ذهابا أو إياباً من خطاباته المتعددة في جنبات المحروسة .. أو يمسك بعصاه ويهوي بكل قوته بها على رؤوس أشراف هذا الوطن في السجون أو المظاهرات ...
نعم يا سادة إن من يحمي النظام المصري هو الجهل ..الجهل الذي يعشش في رؤوس ملايين من المصريين التي لا تعرف أن من حقها أن تنتفض على الظلم والطغيان والاستبداد والفساد وتسترد حقوقها المسلوبة ..أو حتى تقول لضابط الأمن الذي يهين كرامتها يومياً كلمة لا ..
الجهل هو الذي ساوى رأس قاضي مصري بالأرض تحت وطأة حذاء ضابط قذر من ضباط الداخلية ..
إن هجرة العقول المصرية لبلاد الغرب أصبح واقعاً مؤسفاً ..فهم لا يستطيعون أن يعيشوا في مصر فيصابوا بمثل ما أصاب جمال حمدان وينتحروا اجتماعياً .. أو يعيشوا في جو من الروتين والبيروقراطية والأحقاد واللا قانون والاستبداد.. أو يعودون فيصبحوا بلا حماية ولا اهتمام فيغتالهم الموساد الإسرائيلي بكل بساطة مثل قتل ناموسة على سطح مكتب وآخرهم الباحث النووي المصري عبده شكر الذي عاد من بعثة عامين في الولايات المتحدة ليلقى مصرعه في ظروف غامضة بمنزله في الإسكندرية ليلحق بسميرة موسى التي لاقت حتفها جراء حادث سيارة وقع لها في الولايات المتحدة عام 1952، وسعيد بدير الذي لقي حتفه هو الآخر إثر سقوطه من شرفة منزله في الأسکندرية عام 1989، بالإضافة إلى يحيى المشد العالم النووي المصري الذي کان يشارك في البرنامج النووي العراقي والذي قتل في العاصمة الفرنسية باريس في عام 1980.
تفيد بعض الإحصائيات التي قدمها بنك التنمية الدولي أن عدد المصريين الذين يساهمون بشكل فعال في تنمية بلاد الغرب يقدرون بخمسين ألف مصري ..من بينهم ما يقارب العشرون ألف مصري يعملون في وظائف حساسة وهامة ولا غنى عنهم بأي شكل من الأشكال ..هذا يشمل بجانب العلماء الأدباء والمفكرون .
أتذكر جيداً مقولة الرئيس السادات رحمه الله عندما كان يصف المثقفون بـ "الأفندية الأراذل " ..وهذا يعود إلى أن المثقفون هم عبء على رقاب الفاسدون والمستبدون من طبقة الحكام ..
يبدو أن الحكومة المصرية سعت بكل قوتها خلال العقدين الأخيرين إلى التخلص من هؤلاء الأفندية بل تعدى الأمر إلى تدمير البيئة الملائمة لاستخراج أمثالهم من خلال التهجير الإجباري لعلماء ومثقفو هذا الوطن لتخسر مصر خيرة أبنائها ..أو من خلال مناهج التعليم العقيمة التي تعتمد بالأساس على تنمية وتغذية الكراهية في قلوب الشعب المصري للعلم والقراءة وعدم الاكتراث لهما لأن مقياس النجاح في المجتمع حالياً كما تسوقه الآلة الإعلامية المصرية بأن النجاح فهلوة وأن طريق الأغاني الهابطة والعري والنصب والمخدرات هو الفلاح عكس ما كان يسوق في عهد محمد علي بأن المتعلم هو درة المجتمع ومن صفوته ..!!
هذا يا سادة ما حدث من جريمة مأساوية في حق ماضي وحاضر ومستقبل هذا الوطن .. تجعل القلوب تعتصر ألماًُ على ما يحدث ..للأسف هذا هو حال البلاد التي يحكمها نظام استبدادي لا يفكر سوى ببقائه على رأس السلطة وعلى صدور الشعوب وسرقة ونهب مقدراتها ..هذا هو حال وطن يخونه حكامه ومسئولوه من أجل حفنة زائلة من الأموال والسلطة ..!!
الحلول كثيرة ومتعددة ويسيرة جدا إذا توفرت الإرادة السياسية وتوفرت حكومة مخلصة لشعبها ولبلدها .. لكن كل الحلول مهما كانت يسيرة وبسيطة وفعالة لا تساوي حبراً على ورق أمام حاكم أراد أن يقضي على شعبه بكل وسيلة ممكنة ..
أتذكر جيداً ما قاله مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الأسبق صاحب الفضل الأول بعد الله عز وجل في نهضة ماليزيا وتواجدها بين النمور الاقتصادية العالمية عندما سأله بعض الصحفيين عن هذا التحول الرهيب في واقع ماليزيا من دولة متخلفة إلى دولة متقدمة جدا ..قال لهم " لقد بدأت بالتعليم ..فإذا صلح حال التعليم صلح حال البلد " ..
هذا والله ولي التوفيق ،،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق