لا يستطيع أي قارئ للواقع المصري أن يهمل في تحليله للمجتمع هوية المصريون الدينية ، ولا يستطيع أي باحث اجتماعي محترم إغفال تلك الهوية والتقليل من شأن تأثيرها على العقلية المصرية لما لها من قوة وسطوة حقيقية على سلوكيات الشعب المصري حتى في أكثر فئاته انحلالاً ، ولمحاولة فهم أبعاد هذه الشخصية وتفهم شكلها الموجود في الإطار الحالي للمجتمع المصري يجب علينا البدء في تقصي تاريخ صراعاتها وحضورها وانكساراتها وازدهارها في العصر الحديث للدولة المصرية ، فمنذ وصول الألباني الأصل " محمد علي " إلى سدة الحكم في مصر عام 1805 انتقلت مصر إلى مرحلة ما يسمى ضمنياً بمرحلة " الحداثة " ، حيث كان انبهار محمد علي بالنموذج الفرنسي على وجه الخصوص قد دفعه دفعاً إلى محاولة التقيد بإطار الحداثة على الطريقة الفرنسية فاتخذ خطوة أثرت كثيراً على الهوية المصرية غير عابئٍ بالتركيبة النفسية والتاريخية للمصريين ، فأنهى عهد الدولة الإسلامية وانتقل إلى الدولة العلمانية على الطريقة الفرنسية بعد أن نحى الشريعة الإسلامية واستبدلها بالقانون الفرنسي الوضعي .
لم تكن خطوة الاستبدال هذه التي قام بها محمد علي خطوة محسوبة بشكل أعمق من شكلها الظاهري والمتمثل باللحاق بركب الحداثة " الفرنسي " ، ولعل أصول الرجل الألبانية لها الأثر في ذلك ، فأي متأمل للتاريخ المصري وشخصية شعبه يجد أن الهوية الدينية هي العامل والمكون الرئيسي لشخصيته ، والانجراف نحو حداثة مستوردة من الخارج في قالب لا يناسب الهوية المصرية هو كمن يغزل الماء بالماء !
حاول محمد علي كثيراً أن يُخرج المصريين من هويتهم الدينية إلى هوية رآها هو أعم وأشمل ألا وهي الهوية الوطنية ، فقام باتخاذ إجراءات عديدة أميزها هو ابتعاث الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا ليدرس هناك ثم يعود بعدها ليكًوِّن جيلاً من الأئمة وعلماء الدين على الطريقة الإسلامية الفرنسية بعد معارك ضارية خاضها الشيخ ضد شيوخ الأزهر التقليديين في هذا الوقت ، كما كان محمد علي أول حاكم مسلم ينادي بحقوق المواطنة فمنح الأقباط رتبة البكوية وعينهم كحكام أقاليم ( رتبة المحافظ ورئيس المدينة حالياً ) مثل بطرس أغا أرمانيوس حاكماً علي برديس ، وفرج أغا ميخائيل حاكما علي دير مواس .. وغيرهم .
آمن المصريون كثيراً بفكر محمد علي واحترموه وخاضوا معه معاركه ضد الوهابية رمز الدولة الثيوقراطية آنذاك مؤمنين بأهمية الدولة الوطنية ، بل ازداد إيمانهم بالدولة الوطنية العلمانية فنشأ أول مجلس نيابي في مصر عام 1866 وشمل قانون الترشيح المصريين عموما بغير تفريق بسبب الدين في حق الترشيح لعضوية المجلس .
وكأي تجربة جديدة يخوضها الإنسان استمتع المصريون بتجربة محمد علي واستمروا فيها طويلاً وطوروها لتصبح أقرب للحلم الذي راود مخيلة محمد علي وهو يتخذ خطواته الأولى للحداثة ، فنشأت الأحزاب واشتدت المنافسة بينها وأصبح الشكل الليبرالي المصري أقرب للنموذجية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين .
لكن الهوية المكونة لأي شعب قد تختفي لبعض الوقت لكنها لا تختفي كل الوقت ، فظهرت حركة الإخوان المسلمون عام 1928 على يد الشيخ حسن البنا الذي لاقت دعوته قبولاً غير متوقع لأي محلل اجتماعي وقتها ، فدعوة البنا أيقظت أو أحيت الهوية الدينية من جديد في الشخصية المصرية والتي كانت خاملة لبعض الوقت .
انتشار الفكر الإخواني لاقى استحسان جيد من القيادات آنذاك ، وأصبح فكراً وطنياً له تقديره بمشاركته الفعالة في الحركة الوطنية سواء ضد الاستعمار أو بعض المسئولون الفاسدون أو حتى في حرب 48 ، ولعب ذكاء حسن البنا في إرساء قواعد للجماعة ضمن إطار محدد يتناسب مع الوضع الاجتماعي الذي صنعه محمد علي والذي كان مازال يحكم المجتمع المصري آنذاك ، كما نجح في استمالة الشارع القبطي للحركة بصداقته القوية مع مكرم عبيد باشا أو على الأقل تحييد هذا الشارع تجاه حركته .
كانت فرصة البنا ذهبية جداً في وصول الإخوان إلى السلطة لو أمهله الوقت قليلاً حيث كانت المنافسة مع الأفكار المعاصرة آنذاك صراع نزيه وسهل على البنا الفوز به، لكن قيام الثورة قضى على حلم عودة الدولة الدينية ، بل قضى على أي فرصة للإسلاميين وغير الإسلاميين في الوصول إلى السلطة بعد انتهاء شهر العسل بين الليبرالية والدولة المصرية بعودة الأخيرة إلى ثكنة الديكتاتورية والاستبداد على يد الضباط الأحرار حتى وقتنا الحالي ، فانتقلت المنافسة مع الأيديولوجيات الموجودة ما قبل الثورة إلى صراع دموي مع فكر أحادي استبدادي يعتمد فقط على الأمر والنهي .
كان النمو الذي أحدثه البنا في الهوية الدينية المصرية أصعب من أن يحجم بخطابات الثورة عن القومية والاشتراكية ، لذا كان فكر الإخوان هو الخطر الأكبر على السلطة في نظر رجال الثورة وبالأخص بعد مظاهرة 28 فبراير عام 1954 ، لذا لجأ الضباط إلى الحل القمعي لتقويض الحركة وشلها أو بترها من المجتمع .
ونجحت الثورة في ذلك إلى حد كبير ، لكن مع انتكاسة الثورة الكبرى في يونيو 67 عاد الفكر الديني ليطرح نفسه بقوة على الساحة لكنه أجًّل الصراع مع السلطة حتى الانتهاء من أم المعارك مع إسرائيل ،ثم جاء السادات إلى السلطة بضعفه السياسي الداخلي أمام وحش الاتحاد الاشتراكي الذي منعه من التمتع بسلطاته كسلفه السابق عبد الناصر ، حتى استطاع القضاء عليه بلعبته السياسية الشهيرة وأصبحت السلطة خالصة مخلصة له ، لكن الشارع المصري لم يصبح بكامله في يد السادات حيث كان ملكاً للشيوعيين مما أرق ذلك السادات ودعاه إلى اللجوء إلى الغول الإخواني كي يدهس الفأر الشيوعي بمساندة ومباركة شخصية منه وكان له ما أراد ، لكن الغول الذي أخرجه السادات من القمقم قام بالتهامه في حادثة المنصة الشهيرة ويعود ذلك لثلاثة أسباب رئيسية أولهم شدة التعذيب والتنكيل الذي لاقاه الإسلاميون في معتقلات عبد الناصر جعلتهم في حاجة ملحة لوجود فكر شرعي يلبي لهم رغبتهم في الانتقام من السلطة وكان لهم ما أراد على يد محمود شاكر مؤسس الفكر التكفيري مع الشيخ عمر عبد الرحمن ، والسبب الثاني هو فتح الأبواب أمام الراغبين في الجهاد ضد السوفييت في أفغانستان إرضاءً للولايات المتحدة مما تركهم فريسة سهلة لاعتناق الفكر التكفيري وحمله إلى وطنهم الأم مصر لتطبيقه ، والسبب الثالث هي سياسات السادات الخارجية في الموالاة لأمريكا والصلح مع إسرائيل ، ناهيك عن محاولة السادات تعديل قانون الأحوال الشخصية المتبقي من إرث الحكم الإسلامي في دستور 71 من قانون سماوي إلى قانون وضعي مثل تونس والذي قوبل برفض جامح من المصريين .
وأصبح الفكر الإسلامي الوطني الذي نادى به حسن البنا أطلالاً بجانب رواج الفكر التكفيري في الثمانينات والتسعينات بسبب المعالجة الأمنية السيئة التي كانت تزيد من نار الصدور وشطط العقول ، وبسبب ضعف مؤسسة الدين الرسمية وهي الأزهر في تخريج علماء حقيقيين وليسوا مجرد إمعات جهلة تابعين للسلطة مما جعلهم غير مقبولين بتاتاً من المجتمع المصري ليتم استبدالهم بفتاوي الشيخ عمر عبد الرحمن وغيره من أئمة التطرف .
وبطريقة أو بأخرى استطاع الأمن المصري أن يحد كثيراً من تنامي هذه الحركات التكفيرية الإرهابية لكنه لم يستطع القضاء عليها نهائياً لأن القضاء عليها يتطلب تعاملاً فكرياً بحتاً .
ثم عاد الإخوان المسلمون إلى الطفو مرة أخرى على سطح المجتمع المصري ، واشتد عودهم وتنظيمهم ليتوغلوا في كل مؤسسات الدولة ويصبحوا الحركة المعارضة الفعلية رقم واحد على أرض مصر ، بعد أن قدموا أوراقهم كحركة سياسية للمجتمع المصري لاقت قبولاً من كثير من المصريين بدرجة توازي البغض الذي يلقاه الحزب الوطني ومؤسسة الرئاسة ، وكان هذا جرس إنذار قوي للحكومة المصرية التي تعد جمال مبارك ليكون وريثاً من بعد أبيه .
فتفشي الفساد والتخلف في المجتمع المصري دفع المصريين ذوي الهوية الدينية المتأصلة في شخصيتهم عبر التاريخ دفعاً نحو الوقوف بجانب المعارض الأكبر جماعة الإخوان ضد السلطة لعلهم يحققون لهم ما يحلمون به من عدل وتطور وحرية . ومع مضايقة الإدارة الأمريكية المستمرة بعد أحداث سبتمبر 2001 للحكومة المصرية ومطالبتها الأخيرة بتطبيق الديمقراطية وعدم التضييق على المعارضة وبما فيهم الإخوان ، كان المسئولون المصريون يتملصون من ذلك بحجة الفزاعة الإسلامية وأن الحكومة المصرية الصديقة لأمريكا إذا سقطت فسوف تأتي حكومة إسلامية لا محالة ، واستخدموا مصطلحات تخيف الأمريكيين كالإرهاب والجزية ( ضريبة الدم وهي تسقط حالياً عن المصري المسيحي لأنه ينخرط في الجيش وهي فتوى للدكتور عمارة ) وحقوق المرأة وإسرائيل والأقلية القبطية في مصر .
كما قاموا باستغلال خوف الولايات المتحدة من الإسلاميين بمحاربة الإخوان والقضاء عليهم ، وقدموا بديلاً وهمياً من الديمقراطية يرضي غرور مطالب الإدارة الأمريكية وهي التعديلات الدستورية الصورية الأخيرة وما تبعها من انتخابات الرئاسة الهزلية .
ولم تكتفي الحكومة المصرية بذلك للقضاء على التيار الإخواني ، بل عمدت إلى دعم الحركات الوهابية في مصر والتي تنادي بطاعة ولي الأمر وأخذت تقويها لتصبح خصماً قوياً يستطيع مواجهة الإخوان وبعض فلول التكفيريين وفكرة الثورة الخومينية الشيعية ، ثم تعدت ذلك وقامت بتنشيط الفتنة الطائفية بين المصريين لخلق حالة من الكراهية بين قطبي الأمة عن طريق غض الطرف عن بعض منظمات أقباط المهجر المتطرفة والتي تقوم ليل نهار بإثارة الأقباط المصريين ضد شركائهم في الوطن من المسلمين عن طريق فضائية الحياة أو المواقع الإلكترونية ، ولا أدل على هذا التواطؤ من استقبالاتهم الحافلة لبعض قيادات تلك المنظمات أمثال مايكل منير ومجدي خليل ، أو تركهم لبعض مواقع الانترنت القبطية المتطرفة جنباً إلى جنب مع بعض المواقع الإسلامية المتطرفة لإشعال المزيد من الفتنة بالرغم من أن الحكومة تقوم بفرض حجب على بعض المواقع السياسية الهامة المعارضة مثل موقع جبهة تحرير مصر ، هذا بالإضافة لتركهم إلى دعاة التطرف يصولون ويجولون في الفضائيات دون قيد أو منع .
نجاح الحكومة المصرية في إفشاء روح العداوة بين قطبي الأمة أضحى ملموساً ، ولا أدل من ذلك إلا وصول تلك الروح إلى رؤوس الطائفة الإسلامية ورؤوس الطائفة المسيحية والتي لا نستطيع إخفاءها بمأدبة إفطار رمضان أو قداس ليلة الميلاد اللذان يصوران كل عام وهما يجمعان شيخ الأزهر بالبابا ، بل تخطت الحكومة المصرية مرحلة إشعال الصراع الإسلامي الإسلامي أو الإسلامي القبطي إلى مرحلة القبطي القبطي مثل ما حدث مؤخراً في الصراع على البابوية بين الأنبا ماكسيموس وأنصاره والبابا شنودة وأنصاره .
اكتفى النظام المباركي بترك المصريون ينهشون في لحوم بعضهم البعض بدافع هويتهم الدينية وتلاعب بها لمصلحته الخاصة ، حتى يتفرغ للقلة الصغيرة من المعارضة والتي نأت بنفسها بعيداً عن هذا الصراع ففتك بها لضعفها وقلة حيلتها مثل ما حدث مع حزب الغد والوفد والناصري ، ليتم تفريغ الساحة تماماً لجمال مبارك ، وتقديم النظام المصري الحاكم للغرب في صورة النظام الأمثل الذي إن سقط ستشتعل مصر في حرب أهلية دينية على غرار حرب لبنان الأهلية في الثمانينات ، وأن الوحيد القادر على حفظ دور مصر التابع للغرب هو النظام المباركي الذي سيرعى مصالح الغرب وطفلهم المدلل إسرائيل ويواليهم بعكس الإسلاميين الذين كما صورهم الإعلام الحكومي بأنهم مجموعة من السفاحين الذين سيفتكون بالعالم ما إن وصلوا إلى الحكم .
المتأمل في تلك اللمحة التاريخية منذ دخول مصر إلى عصر الحداثة حتى وقتنا الحالي يجد أنه بالرغم من وصول العلمانيون والاشتراكيون والقوميون والرأسماليون والمستبدون إلى السلطة إلا أنهم لم يستطيعوا القضاء على الهوية الدينية المصرية التي تحول بينهم وبين التنعم بالسلطة في مصر ، حتى جاء الحزب الوطني واستفاد من كل دروس الماضي ولعب على هذا الكارت لصالحه بحرفية عالية بها كثير من الخسة والحقارة والتضحية بتاريخ أمة وشكلها الحضاري .
لم يشهد التاريخ المصري مثل هذا الاحتقان بين المسلمون وبعضهم البعض وبين المسلمون والمسيحيون وبين المسيحيون وبعضهم البعض مثل ما تشهده مصر في مثل هذه الأيام ، حيث نجح الحزب الوطني في تطبيق نظرية فرق تسد فيما فشل في تطبيقها صاحب النظرية الأم الاستعمار البريطاني وذلك لأن الأخير ووجه بحائط صد قوي من نخبة مثقفة وطنية لها قبول وحضور في الشارع المصري عكس واقعنا الحالي حيث لا توجد نخبة مثقفة واعية لها قبول أو حضور عند غالبية المصريين وهذا ما ساعد الحزب الوطني في تطبيق النظرية بسهولة ويسر .
سأذكركم وأذكر نفسي بأنه وبالرغم من تبعية الدولة المصرية للنظام الإسلامي قديماً إلا أنه لم يحدث أبداً تفشي لهذه الحالة من الكراهية بين أطياف المجتمع المصري بسبب الهوية الدينية مثل ما يحدث هذه الأيام .
ولنبدأ إلى ما قبل دخول الإسلام مصر حيث كان الأنبا بنيامين بابا الأسكندرية الثامن والثلاثين ، والذي عينه المقوقس حاكما وبطريركا على مصر من قبل هرقل الملك والذي كان على عقيدة مجمع خلقيدونية مثل المقوقس ، فشرع الأخير في اضطهاد الأقباط لأنهم لم ينقادوا لرأيه وطارد القديس بنيامين البطريرك الشرعي ، فهرب هذا الأب إلى الصعيد ، وكان يتنقل بين الكنائس والأديرة ، يثبت رعيته علي الإيمان ، ومكث على هذا الحال عشر سنوات حتى فتح المسلمون مصر ومات المقوقس ، ولما عاد الأنبا بنيامين إلى مقر كرسيه عينه عمرو بن العاص على إدارة شئون مصر الزراعية لثقته بحكمة وأمانة الرجل وعلمه .
أما في عصر الدول الإخشيدية كان محمد بن طغج الإخشيدي يحتفل مع الأقباط بعيد الغطاس في جزيرة في النيل ، وقد أوقدوا حوله ألف قنديل .
وفي الدولة الطولونية نعرف أن جامع أحمد بن طولون بناه سعيد بن كاتب الفرغاني ، وهو مهندس مسيحي ، طلب منه أحمد بن طولون أن يبني مسجده بغير عمدٍ تمتع النظر .
وفي الدولة الفاطمية كانت العلاقة طيبة جداً بين المسيحيين والمسلمين حتى إن يعقوب بن كلس اليهودي كان الوزير الوحيد في عهد المعز ، وعيسى بن نسطورس النصراني كان كذلك في عهد العزيز بن المعز ، مما يدل على أن غير المسلمين وصلوا إلى درجات كبيرة في الدولة الدينية الإسلامية.
كما نعلم أن صلاح الدين الأيوبي كرم أقباط مصر بكنيسة أنشأها لهم خصيصا في فلسطين حررها الله بسبب وقفتهم مع إخوانهم المسلمون ضد الحروب الصليبية ، على الرغم من أن الصليبيين قادمون وهم رافعون لواء الصليب الذي يقدسه الأقباط المصريون .
كما نتذكر أن بابا الكنيسة المصرية هو أول من رفض معاهدة نابليون على قتال المصريين المسلمين ووقف مع المسلمين ضد نابليون ، وضد المعلم يعقوب قائد كتيبة الأقباط وجرجس الجوهري أحد أعيان أقباط مصر وإخوانهم كلا من المعلم ملطي وأنفورني وحنين وفادوس والذين نجحوا في أن يجندوا حوالي 2000 قبطي ليحاربوا مع جيوش الاحتلال، لكن الأغلبية الساحقة من القبط المسيحيين وأهم رموزهم وكذلك قيادات الكنيسة الأرثوذكسية رفضت هذه الخيانة وواجهتها حتى فشلت الحملة الفرنسية وخرج المعلم يعقوب ونفر من أتباعه معهم ليلقى في البحر بعد أن مات على متن أحد سفن نابليون الهاربة .
كما حاول الاحتلال الإنجليزي أن يعبث بنفس الملف محرضاً مجموعة من الأقباط علي عقد مؤتمر في مدينة أسيوط يوم 6 مارس1911 سمي المؤتمر القبطي الأول كان الدافع إليه مطالب طائفية بتحريض من الاحتلال الإنجليزي ، لكن رد العقلاء من الزعماء المستنيرين من رجال حزب الأمة أو رجال الحزب الوطني الداعين إلى الوحدة الوطنية جاء بمؤتمر آخر عُقد في نفس العام يوم 29/4/1911 سمي المؤتمر المصري ، وتجاوز العقلاء من الطرفين هذه المحنة بأن الحل لا يكون في التمييز و إنما يكون في المزيد من الاندماج .
وقد عالجت هذا الأمر بشكل مثالي ثورة عام 1919 التي قادها المسلمون والمسيحيون ضد الاحتلال الإنجليزي وخطب القساوسة في الأزهر وخطب المشايخ في الكنائس، والذي تشكل علي إثرها الوفد المصري الذي فاوض باسم المصريين بزعامة سعد زغلول وانتهى إلى تأسيس حزب الوطنية المصرية آنذاك (حزب الوفد) ، ولكن الاحتلال حاول مرة أخرى شق الصف ومحو أثر ثورة 1919 فعين يوسف وهبه باشا رئيساً للوزارة في حماية الإنجليز إبان مقاطعة الشعب الثائر لسلطات الاحتلال ، ولكن الشاب القبطي عريان يوسف سعد تطوع لاغتيال يوسف وهبة باشا كي لا تكون فتنة إذا اغتاله أحد المسلمين .
كما حاول الاحتلال الإنجليزي أن يفرض حماية الأقليات في تصريح 28 فبراير عام 1922 والذي رفضه الأقباط المسيحيون قبل المسلمين، كما صاغ الجميع دستور عام 1923 على أساس المواطنة وعدم التمييز ورفض المسيحيون قبل المسلمون تخصيص حصة في المقاعد البرلمانية للأقباط ، ونجح كثير من الأقباط في دوائر أغلبيتها الكاسحة من المسلمين لأن الاختيار آنذاك كان على أساس الكفاءة وليس الدين ، فظل الأمر على هذا الحال حتى قيام حركة يوليو عام 1952م.
كما كان من أوائل الذين عملوا في مجال الاستخبارات المصرية وتجسسوا لصالح مصر على إسرائيل هو رجل مصري أرمني مسيحي اسمه كيبورك يعقوبيان ، ناهيك عن البطولات التي سمعنا عنها من قبل الأقباط في حرب 73 من أجل تحرير تراب وطنهم .
كل هذا وأكثر ستجدونه في التاريخ المصري قبل الحداثة في الدولة الإسلامية وبعد الحداثة في الدولة الوطنية لكن التاريخ لم يشهد مثل تلك الحالات من الاحتقان والكراهية الذي نشهده الآن بسبب فساد سياسات الحزب الحاكم داخل مصر من أجل البقاء في السلطة .
نخلص من هذا كله أن الهوية الدينية للإنسان المصري هي عامل أساسي وهام جداً في تكوينه النفسي والتاريخي ومن الغباء محاولة تنحيتها أو ازدرائها كما يحاول بعض العلمانيون الجدد ، فمحاولة انتزاعها منه هي أمر محال ، كما أن محاولة التلاعب بها من أجل مصالح وأغراض خاصة سيؤدي إلى عواقب وخيمة ، وأن استغلالها الاستغلال الأمثل وتنميتها بشكل إيجابي عن طريق علماء دين حقيقيين وحكام مخلصين لهذا الوطن هو السبيل الوحيد للارتقاء بمصر ووحدة صف شعبها .
لم تكن خطوة الاستبدال هذه التي قام بها محمد علي خطوة محسوبة بشكل أعمق من شكلها الظاهري والمتمثل باللحاق بركب الحداثة " الفرنسي " ، ولعل أصول الرجل الألبانية لها الأثر في ذلك ، فأي متأمل للتاريخ المصري وشخصية شعبه يجد أن الهوية الدينية هي العامل والمكون الرئيسي لشخصيته ، والانجراف نحو حداثة مستوردة من الخارج في قالب لا يناسب الهوية المصرية هو كمن يغزل الماء بالماء !
حاول محمد علي كثيراً أن يُخرج المصريين من هويتهم الدينية إلى هوية رآها هو أعم وأشمل ألا وهي الهوية الوطنية ، فقام باتخاذ إجراءات عديدة أميزها هو ابتعاث الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا ليدرس هناك ثم يعود بعدها ليكًوِّن جيلاً من الأئمة وعلماء الدين على الطريقة الإسلامية الفرنسية بعد معارك ضارية خاضها الشيخ ضد شيوخ الأزهر التقليديين في هذا الوقت ، كما كان محمد علي أول حاكم مسلم ينادي بحقوق المواطنة فمنح الأقباط رتبة البكوية وعينهم كحكام أقاليم ( رتبة المحافظ ورئيس المدينة حالياً ) مثل بطرس أغا أرمانيوس حاكماً علي برديس ، وفرج أغا ميخائيل حاكما علي دير مواس .. وغيرهم .
آمن المصريون كثيراً بفكر محمد علي واحترموه وخاضوا معه معاركه ضد الوهابية رمز الدولة الثيوقراطية آنذاك مؤمنين بأهمية الدولة الوطنية ، بل ازداد إيمانهم بالدولة الوطنية العلمانية فنشأ أول مجلس نيابي في مصر عام 1866 وشمل قانون الترشيح المصريين عموما بغير تفريق بسبب الدين في حق الترشيح لعضوية المجلس .
وكأي تجربة جديدة يخوضها الإنسان استمتع المصريون بتجربة محمد علي واستمروا فيها طويلاً وطوروها لتصبح أقرب للحلم الذي راود مخيلة محمد علي وهو يتخذ خطواته الأولى للحداثة ، فنشأت الأحزاب واشتدت المنافسة بينها وأصبح الشكل الليبرالي المصري أقرب للنموذجية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين .
لكن الهوية المكونة لأي شعب قد تختفي لبعض الوقت لكنها لا تختفي كل الوقت ، فظهرت حركة الإخوان المسلمون عام 1928 على يد الشيخ حسن البنا الذي لاقت دعوته قبولاً غير متوقع لأي محلل اجتماعي وقتها ، فدعوة البنا أيقظت أو أحيت الهوية الدينية من جديد في الشخصية المصرية والتي كانت خاملة لبعض الوقت .
انتشار الفكر الإخواني لاقى استحسان جيد من القيادات آنذاك ، وأصبح فكراً وطنياً له تقديره بمشاركته الفعالة في الحركة الوطنية سواء ضد الاستعمار أو بعض المسئولون الفاسدون أو حتى في حرب 48 ، ولعب ذكاء حسن البنا في إرساء قواعد للجماعة ضمن إطار محدد يتناسب مع الوضع الاجتماعي الذي صنعه محمد علي والذي كان مازال يحكم المجتمع المصري آنذاك ، كما نجح في استمالة الشارع القبطي للحركة بصداقته القوية مع مكرم عبيد باشا أو على الأقل تحييد هذا الشارع تجاه حركته .
كانت فرصة البنا ذهبية جداً في وصول الإخوان إلى السلطة لو أمهله الوقت قليلاً حيث كانت المنافسة مع الأفكار المعاصرة آنذاك صراع نزيه وسهل على البنا الفوز به، لكن قيام الثورة قضى على حلم عودة الدولة الدينية ، بل قضى على أي فرصة للإسلاميين وغير الإسلاميين في الوصول إلى السلطة بعد انتهاء شهر العسل بين الليبرالية والدولة المصرية بعودة الأخيرة إلى ثكنة الديكتاتورية والاستبداد على يد الضباط الأحرار حتى وقتنا الحالي ، فانتقلت المنافسة مع الأيديولوجيات الموجودة ما قبل الثورة إلى صراع دموي مع فكر أحادي استبدادي يعتمد فقط على الأمر والنهي .
كان النمو الذي أحدثه البنا في الهوية الدينية المصرية أصعب من أن يحجم بخطابات الثورة عن القومية والاشتراكية ، لذا كان فكر الإخوان هو الخطر الأكبر على السلطة في نظر رجال الثورة وبالأخص بعد مظاهرة 28 فبراير عام 1954 ، لذا لجأ الضباط إلى الحل القمعي لتقويض الحركة وشلها أو بترها من المجتمع .
ونجحت الثورة في ذلك إلى حد كبير ، لكن مع انتكاسة الثورة الكبرى في يونيو 67 عاد الفكر الديني ليطرح نفسه بقوة على الساحة لكنه أجًّل الصراع مع السلطة حتى الانتهاء من أم المعارك مع إسرائيل ،ثم جاء السادات إلى السلطة بضعفه السياسي الداخلي أمام وحش الاتحاد الاشتراكي الذي منعه من التمتع بسلطاته كسلفه السابق عبد الناصر ، حتى استطاع القضاء عليه بلعبته السياسية الشهيرة وأصبحت السلطة خالصة مخلصة له ، لكن الشارع المصري لم يصبح بكامله في يد السادات حيث كان ملكاً للشيوعيين مما أرق ذلك السادات ودعاه إلى اللجوء إلى الغول الإخواني كي يدهس الفأر الشيوعي بمساندة ومباركة شخصية منه وكان له ما أراد ، لكن الغول الذي أخرجه السادات من القمقم قام بالتهامه في حادثة المنصة الشهيرة ويعود ذلك لثلاثة أسباب رئيسية أولهم شدة التعذيب والتنكيل الذي لاقاه الإسلاميون في معتقلات عبد الناصر جعلتهم في حاجة ملحة لوجود فكر شرعي يلبي لهم رغبتهم في الانتقام من السلطة وكان لهم ما أراد على يد محمود شاكر مؤسس الفكر التكفيري مع الشيخ عمر عبد الرحمن ، والسبب الثاني هو فتح الأبواب أمام الراغبين في الجهاد ضد السوفييت في أفغانستان إرضاءً للولايات المتحدة مما تركهم فريسة سهلة لاعتناق الفكر التكفيري وحمله إلى وطنهم الأم مصر لتطبيقه ، والسبب الثالث هي سياسات السادات الخارجية في الموالاة لأمريكا والصلح مع إسرائيل ، ناهيك عن محاولة السادات تعديل قانون الأحوال الشخصية المتبقي من إرث الحكم الإسلامي في دستور 71 من قانون سماوي إلى قانون وضعي مثل تونس والذي قوبل برفض جامح من المصريين .
وأصبح الفكر الإسلامي الوطني الذي نادى به حسن البنا أطلالاً بجانب رواج الفكر التكفيري في الثمانينات والتسعينات بسبب المعالجة الأمنية السيئة التي كانت تزيد من نار الصدور وشطط العقول ، وبسبب ضعف مؤسسة الدين الرسمية وهي الأزهر في تخريج علماء حقيقيين وليسوا مجرد إمعات جهلة تابعين للسلطة مما جعلهم غير مقبولين بتاتاً من المجتمع المصري ليتم استبدالهم بفتاوي الشيخ عمر عبد الرحمن وغيره من أئمة التطرف .
وبطريقة أو بأخرى استطاع الأمن المصري أن يحد كثيراً من تنامي هذه الحركات التكفيرية الإرهابية لكنه لم يستطع القضاء عليها نهائياً لأن القضاء عليها يتطلب تعاملاً فكرياً بحتاً .
ثم عاد الإخوان المسلمون إلى الطفو مرة أخرى على سطح المجتمع المصري ، واشتد عودهم وتنظيمهم ليتوغلوا في كل مؤسسات الدولة ويصبحوا الحركة المعارضة الفعلية رقم واحد على أرض مصر ، بعد أن قدموا أوراقهم كحركة سياسية للمجتمع المصري لاقت قبولاً من كثير من المصريين بدرجة توازي البغض الذي يلقاه الحزب الوطني ومؤسسة الرئاسة ، وكان هذا جرس إنذار قوي للحكومة المصرية التي تعد جمال مبارك ليكون وريثاً من بعد أبيه .
فتفشي الفساد والتخلف في المجتمع المصري دفع المصريين ذوي الهوية الدينية المتأصلة في شخصيتهم عبر التاريخ دفعاً نحو الوقوف بجانب المعارض الأكبر جماعة الإخوان ضد السلطة لعلهم يحققون لهم ما يحلمون به من عدل وتطور وحرية . ومع مضايقة الإدارة الأمريكية المستمرة بعد أحداث سبتمبر 2001 للحكومة المصرية ومطالبتها الأخيرة بتطبيق الديمقراطية وعدم التضييق على المعارضة وبما فيهم الإخوان ، كان المسئولون المصريون يتملصون من ذلك بحجة الفزاعة الإسلامية وأن الحكومة المصرية الصديقة لأمريكا إذا سقطت فسوف تأتي حكومة إسلامية لا محالة ، واستخدموا مصطلحات تخيف الأمريكيين كالإرهاب والجزية ( ضريبة الدم وهي تسقط حالياً عن المصري المسيحي لأنه ينخرط في الجيش وهي فتوى للدكتور عمارة ) وحقوق المرأة وإسرائيل والأقلية القبطية في مصر .
كما قاموا باستغلال خوف الولايات المتحدة من الإسلاميين بمحاربة الإخوان والقضاء عليهم ، وقدموا بديلاً وهمياً من الديمقراطية يرضي غرور مطالب الإدارة الأمريكية وهي التعديلات الدستورية الصورية الأخيرة وما تبعها من انتخابات الرئاسة الهزلية .
ولم تكتفي الحكومة المصرية بذلك للقضاء على التيار الإخواني ، بل عمدت إلى دعم الحركات الوهابية في مصر والتي تنادي بطاعة ولي الأمر وأخذت تقويها لتصبح خصماً قوياً يستطيع مواجهة الإخوان وبعض فلول التكفيريين وفكرة الثورة الخومينية الشيعية ، ثم تعدت ذلك وقامت بتنشيط الفتنة الطائفية بين المصريين لخلق حالة من الكراهية بين قطبي الأمة عن طريق غض الطرف عن بعض منظمات أقباط المهجر المتطرفة والتي تقوم ليل نهار بإثارة الأقباط المصريين ضد شركائهم في الوطن من المسلمين عن طريق فضائية الحياة أو المواقع الإلكترونية ، ولا أدل على هذا التواطؤ من استقبالاتهم الحافلة لبعض قيادات تلك المنظمات أمثال مايكل منير ومجدي خليل ، أو تركهم لبعض مواقع الانترنت القبطية المتطرفة جنباً إلى جنب مع بعض المواقع الإسلامية المتطرفة لإشعال المزيد من الفتنة بالرغم من أن الحكومة تقوم بفرض حجب على بعض المواقع السياسية الهامة المعارضة مثل موقع جبهة تحرير مصر ، هذا بالإضافة لتركهم إلى دعاة التطرف يصولون ويجولون في الفضائيات دون قيد أو منع .
نجاح الحكومة المصرية في إفشاء روح العداوة بين قطبي الأمة أضحى ملموساً ، ولا أدل من ذلك إلا وصول تلك الروح إلى رؤوس الطائفة الإسلامية ورؤوس الطائفة المسيحية والتي لا نستطيع إخفاءها بمأدبة إفطار رمضان أو قداس ليلة الميلاد اللذان يصوران كل عام وهما يجمعان شيخ الأزهر بالبابا ، بل تخطت الحكومة المصرية مرحلة إشعال الصراع الإسلامي الإسلامي أو الإسلامي القبطي إلى مرحلة القبطي القبطي مثل ما حدث مؤخراً في الصراع على البابوية بين الأنبا ماكسيموس وأنصاره والبابا شنودة وأنصاره .
اكتفى النظام المباركي بترك المصريون ينهشون في لحوم بعضهم البعض بدافع هويتهم الدينية وتلاعب بها لمصلحته الخاصة ، حتى يتفرغ للقلة الصغيرة من المعارضة والتي نأت بنفسها بعيداً عن هذا الصراع ففتك بها لضعفها وقلة حيلتها مثل ما حدث مع حزب الغد والوفد والناصري ، ليتم تفريغ الساحة تماماً لجمال مبارك ، وتقديم النظام المصري الحاكم للغرب في صورة النظام الأمثل الذي إن سقط ستشتعل مصر في حرب أهلية دينية على غرار حرب لبنان الأهلية في الثمانينات ، وأن الوحيد القادر على حفظ دور مصر التابع للغرب هو النظام المباركي الذي سيرعى مصالح الغرب وطفلهم المدلل إسرائيل ويواليهم بعكس الإسلاميين الذين كما صورهم الإعلام الحكومي بأنهم مجموعة من السفاحين الذين سيفتكون بالعالم ما إن وصلوا إلى الحكم .
المتأمل في تلك اللمحة التاريخية منذ دخول مصر إلى عصر الحداثة حتى وقتنا الحالي يجد أنه بالرغم من وصول العلمانيون والاشتراكيون والقوميون والرأسماليون والمستبدون إلى السلطة إلا أنهم لم يستطيعوا القضاء على الهوية الدينية المصرية التي تحول بينهم وبين التنعم بالسلطة في مصر ، حتى جاء الحزب الوطني واستفاد من كل دروس الماضي ولعب على هذا الكارت لصالحه بحرفية عالية بها كثير من الخسة والحقارة والتضحية بتاريخ أمة وشكلها الحضاري .
لم يشهد التاريخ المصري مثل هذا الاحتقان بين المسلمون وبعضهم البعض وبين المسلمون والمسيحيون وبين المسيحيون وبعضهم البعض مثل ما تشهده مصر في مثل هذه الأيام ، حيث نجح الحزب الوطني في تطبيق نظرية فرق تسد فيما فشل في تطبيقها صاحب النظرية الأم الاستعمار البريطاني وذلك لأن الأخير ووجه بحائط صد قوي من نخبة مثقفة وطنية لها قبول وحضور في الشارع المصري عكس واقعنا الحالي حيث لا توجد نخبة مثقفة واعية لها قبول أو حضور عند غالبية المصريين وهذا ما ساعد الحزب الوطني في تطبيق النظرية بسهولة ويسر .
سأذكركم وأذكر نفسي بأنه وبالرغم من تبعية الدولة المصرية للنظام الإسلامي قديماً إلا أنه لم يحدث أبداً تفشي لهذه الحالة من الكراهية بين أطياف المجتمع المصري بسبب الهوية الدينية مثل ما يحدث هذه الأيام .
ولنبدأ إلى ما قبل دخول الإسلام مصر حيث كان الأنبا بنيامين بابا الأسكندرية الثامن والثلاثين ، والذي عينه المقوقس حاكما وبطريركا على مصر من قبل هرقل الملك والذي كان على عقيدة مجمع خلقيدونية مثل المقوقس ، فشرع الأخير في اضطهاد الأقباط لأنهم لم ينقادوا لرأيه وطارد القديس بنيامين البطريرك الشرعي ، فهرب هذا الأب إلى الصعيد ، وكان يتنقل بين الكنائس والأديرة ، يثبت رعيته علي الإيمان ، ومكث على هذا الحال عشر سنوات حتى فتح المسلمون مصر ومات المقوقس ، ولما عاد الأنبا بنيامين إلى مقر كرسيه عينه عمرو بن العاص على إدارة شئون مصر الزراعية لثقته بحكمة وأمانة الرجل وعلمه .
أما في عصر الدول الإخشيدية كان محمد بن طغج الإخشيدي يحتفل مع الأقباط بعيد الغطاس في جزيرة في النيل ، وقد أوقدوا حوله ألف قنديل .
وفي الدولة الطولونية نعرف أن جامع أحمد بن طولون بناه سعيد بن كاتب الفرغاني ، وهو مهندس مسيحي ، طلب منه أحمد بن طولون أن يبني مسجده بغير عمدٍ تمتع النظر .
وفي الدولة الفاطمية كانت العلاقة طيبة جداً بين المسيحيين والمسلمين حتى إن يعقوب بن كلس اليهودي كان الوزير الوحيد في عهد المعز ، وعيسى بن نسطورس النصراني كان كذلك في عهد العزيز بن المعز ، مما يدل على أن غير المسلمين وصلوا إلى درجات كبيرة في الدولة الدينية الإسلامية.
كما نعلم أن صلاح الدين الأيوبي كرم أقباط مصر بكنيسة أنشأها لهم خصيصا في فلسطين حررها الله بسبب وقفتهم مع إخوانهم المسلمون ضد الحروب الصليبية ، على الرغم من أن الصليبيين قادمون وهم رافعون لواء الصليب الذي يقدسه الأقباط المصريون .
كما نتذكر أن بابا الكنيسة المصرية هو أول من رفض معاهدة نابليون على قتال المصريين المسلمين ووقف مع المسلمين ضد نابليون ، وضد المعلم يعقوب قائد كتيبة الأقباط وجرجس الجوهري أحد أعيان أقباط مصر وإخوانهم كلا من المعلم ملطي وأنفورني وحنين وفادوس والذين نجحوا في أن يجندوا حوالي 2000 قبطي ليحاربوا مع جيوش الاحتلال، لكن الأغلبية الساحقة من القبط المسيحيين وأهم رموزهم وكذلك قيادات الكنيسة الأرثوذكسية رفضت هذه الخيانة وواجهتها حتى فشلت الحملة الفرنسية وخرج المعلم يعقوب ونفر من أتباعه معهم ليلقى في البحر بعد أن مات على متن أحد سفن نابليون الهاربة .
كما حاول الاحتلال الإنجليزي أن يعبث بنفس الملف محرضاً مجموعة من الأقباط علي عقد مؤتمر في مدينة أسيوط يوم 6 مارس1911 سمي المؤتمر القبطي الأول كان الدافع إليه مطالب طائفية بتحريض من الاحتلال الإنجليزي ، لكن رد العقلاء من الزعماء المستنيرين من رجال حزب الأمة أو رجال الحزب الوطني الداعين إلى الوحدة الوطنية جاء بمؤتمر آخر عُقد في نفس العام يوم 29/4/1911 سمي المؤتمر المصري ، وتجاوز العقلاء من الطرفين هذه المحنة بأن الحل لا يكون في التمييز و إنما يكون في المزيد من الاندماج .
وقد عالجت هذا الأمر بشكل مثالي ثورة عام 1919 التي قادها المسلمون والمسيحيون ضد الاحتلال الإنجليزي وخطب القساوسة في الأزهر وخطب المشايخ في الكنائس، والذي تشكل علي إثرها الوفد المصري الذي فاوض باسم المصريين بزعامة سعد زغلول وانتهى إلى تأسيس حزب الوطنية المصرية آنذاك (حزب الوفد) ، ولكن الاحتلال حاول مرة أخرى شق الصف ومحو أثر ثورة 1919 فعين يوسف وهبه باشا رئيساً للوزارة في حماية الإنجليز إبان مقاطعة الشعب الثائر لسلطات الاحتلال ، ولكن الشاب القبطي عريان يوسف سعد تطوع لاغتيال يوسف وهبة باشا كي لا تكون فتنة إذا اغتاله أحد المسلمين .
كما حاول الاحتلال الإنجليزي أن يفرض حماية الأقليات في تصريح 28 فبراير عام 1922 والذي رفضه الأقباط المسيحيون قبل المسلمين، كما صاغ الجميع دستور عام 1923 على أساس المواطنة وعدم التمييز ورفض المسيحيون قبل المسلمون تخصيص حصة في المقاعد البرلمانية للأقباط ، ونجح كثير من الأقباط في دوائر أغلبيتها الكاسحة من المسلمين لأن الاختيار آنذاك كان على أساس الكفاءة وليس الدين ، فظل الأمر على هذا الحال حتى قيام حركة يوليو عام 1952م.
كما كان من أوائل الذين عملوا في مجال الاستخبارات المصرية وتجسسوا لصالح مصر على إسرائيل هو رجل مصري أرمني مسيحي اسمه كيبورك يعقوبيان ، ناهيك عن البطولات التي سمعنا عنها من قبل الأقباط في حرب 73 من أجل تحرير تراب وطنهم .
كل هذا وأكثر ستجدونه في التاريخ المصري قبل الحداثة في الدولة الإسلامية وبعد الحداثة في الدولة الوطنية لكن التاريخ لم يشهد مثل تلك الحالات من الاحتقان والكراهية الذي نشهده الآن بسبب فساد سياسات الحزب الحاكم داخل مصر من أجل البقاء في السلطة .
نخلص من هذا كله أن الهوية الدينية للإنسان المصري هي عامل أساسي وهام جداً في تكوينه النفسي والتاريخي ومن الغباء محاولة تنحيتها أو ازدرائها كما يحاول بعض العلمانيون الجدد ، فمحاولة انتزاعها منه هي أمر محال ، كما أن محاولة التلاعب بها من أجل مصالح وأغراض خاصة سيؤدي إلى عواقب وخيمة ، وأن استغلالها الاستغلال الأمثل وتنميتها بشكل إيجابي عن طريق علماء دين حقيقيين وحكام مخلصين لهذا الوطن هو السبيل الوحيد للارتقاء بمصر ووحدة صف شعبها .
هناك 4 تعليقات:
ظهور حركة الاخوان امسلمين لم يكن فى 1911 بل تكونت فى مدينة الاسماعيليه فى 1928 على يد حسن البنا وساعدته شركة قناة السويس الفرنسيه بتبرع مالى حسب مازكره ريتشارد ميتشل الباحث الامريكى المحايد عن الاخوان .شكرااا!!!!
اول مرة اسمع عن ريتشارد ميتشيل ده ..واول مرة اسمع عن التبرع المالي لشركة القناة لحسن البنا ..لم اسمعها من مؤيدي الاخوان ومعارضيه ..وجاري تصويب التاريخ .. عفواااا!!!
الأستاذ المشخصاتى
تحياتى البيضاء
هذه أول مرة اتشرف بالقراءة لك أجد هنا مقالا عقلانيا فيه الكثير من الحكمة والقدرة على عرض الفكرة بوضوح وسلاسة
بل انا الاسعد اخي الفاضل
شرفني حضورك :)
إرسال تعليق