الاثنين، 3 نوفمبر 2008

ما بين الخمسين في المائة و الصفر بالمائة ومأساة وطن

لا يستطيع أحد ما ممن شاهدوا رائعة المخرج صلاح أبو سيف " المواطن مصري " أن ينسى هذا الفيلم العبقري ، فمن يستطيع أن ينسى تلك الملامح البائسة للمجتمع المصري في مشاهد القرية والغفير والبيوت الطينية المتهاوية ، ومن يستطيع أن ينسى سطوة العمدة ( عمر الشريف ) وطغيانه وجبروته ومعاونة الفاسدين له أمثال ( حسن حسني ) ومساعدتهم له على تحقيق كل شيء يرغب به حتى ولو لأجل أن ترضى عنه زوجته ( صفية العمري ) وفي سبيل ذلك لا مانع من أن تدهس رقاب الغلابة ( عبد الله محمود ) من أجل بسمة على شفاه العمدة ، من يستطيع أن ينسى مشهد الحسرة وقسوة الألم على وجه ( عزت العلايلي ) وهو ينكر ابنه الشهيد ويكتم حزنه الهائل في قلبه من أجل أن لا يخسر كل شيء ضحى هو وابنه من أجله .
تلك هي أهم سمات الفيلم ، أو أهم لقطاته لدى الكثيرين ، لكن أكثر ما كان يبهرني في ذلك الفيلم هو ذلك المشهد في الحوار الذي يجمع بين كل من ( عبد الله محمود ) وأمه ( أنعام سالوسة ) وهي تذكره بأنه لو كان حصل على مجموع أكبر في الثانوية العامة من الخمسين في المائة لكان الآن يدرس في الجامعة وله مستقبل ، لكنه رد عليها بأنه ليس الوحيد الذي حصل على هذا المجموع فكل شيء حوله 50% حتى البلد نفسها حصلت على 50% .. تلك الجملة العبقرية التي قالها ( عبد الله محمود ) بمنتهى البراعة والأداء المتقن تجسد حالة وطن بأكمله في تلك الفترة .
ومرت السنين والسنين على إنتاج هذا الفيلم و سنين أكثر على الفترة التي كان يتحدث عنها حتى جاء عام 2005 لتحصل مصر على نتيجة أخرى غير التي ذكرها ( عبد الله محمود ) في فيلم " المواطن مصري " ، إنه صفر المونديال الشهير والذي لم يكن صفراً للرياضة فقط ، بل هو صفرٌ لكل شيء ليصف حالة وطن يعيش أسوأ مراحل تاريخه على الإطلاق .
وما بين 50% " المواطن مصري " إلى صفر " المونديال " قصة ما يزيد عن 30 عام من حياة وطن ، قصة مرت كشريط تسجيلي سريع أمام عقلي وأنا أتابع هذه الأيام فعاليات مؤتمر الحزب الوطني المستعمر لأرض مصر وشعبها .
لكن ما استفز مشاعري أو بمعنى أدق حرق الجزء المتبقي من دمي المجفف هو ذلك المؤتمر الصحفي الذي أعده الحزب وحضره جمع غفير من صحفيي الحكومة مع وجود دسيسة بينهم اسمه ( حسين عبد الغني – مراسل قناة الجزيرة ) وصحفي من الوفد لا أذكر اسمه لكني أذكر ملامحه المرتعدة عندما عَلى عليه صوت جمال مبارك وهو ينهره عن استخدام أي صفات قد تسيء إلى أعضاء المجالس المحلية العظماء أصحاب الإنجازات التي من كثرتها لا يمكن ذكرها .
ما علينا .. إن أكثر ما استفزني ليس وجود جمال مبارك كمتحدث رسمي عن شئون وطن بأسره وهو لا تاريخ له ولا حاضر ولا ( إن شاء الله) مستقبل ناهيك عن طريقة حديثه التي تكاد تشعرك أن كل شيء تمام التمام وعال العال وأنه صاحب العزبة الجديد " اسم الله عليه ، اسم الله عليه " ، أو وجود علي الدين هلال وزير الصفر واقف إلى جانبه مطأطئاً رأسه أمام رجل من عمر أحفاده خضوعاً وخوفاً فهو الذي كرمه برئاسة اللجنة الإعلامية في الحزب الوطني بالرغم من أنه لا يستطيع أن يكمل جملة عربية واحدة مفيدة وتكاد تشعر في حديثه أنه رجل في غيبوبة ، أو وجود صحفيين " مطبلاتية " لا يستطيعون طرح سؤال واحد مفيد ولا أعرف كيف أصبحوا صحفيين في قمم صحفية كالأخبار والأهرام والتي تحولت في عهد مبارك إلى روث أو أقل ، فهم في قمة الجهل والسذاجة لا يجيدون سوى التملق في جمال السيد جمال ، اللهم إلا مراسل قناة الجزيرة أ. حسين عبد الغني الذي حفظ ولو قليلاً ماء وجه الصحافة المصرية بأسئلته الجيدة ، ولم تستفزني وصلة الردح المتبادلة بين الحزب الوطني وأحزاب المعارضة الصورية ، أو قرار زيادة التمثيل النسائي في المراكز القيادية ومجلس الشعب وكأن مشكلة مصر تتلخص في ذلك ، ولم تستفزني حيرتي الدائمة ومحاولاتي المستميتة في فهم أيديولوجية الحزب الوطني والذي يجب أن يكون كأي حزب في العالم له أيديولوجية يؤمن بها لكني لم أجد لهم أيديولوجية سوى أيديولوجية السرقة والنهب .
كل هذا قد يكون شيء معتاد عليه في مثل هذه اللقاءات المعدة مسبقاً ، فسيناريوهاتها أضحت محفوظة أكثر من طريقة لعب الزمالك لجوزيه ، أو الدرس المكتوب 20 مرة على يد تلميذ لا يتجاوز 7 سنوات ، فهي مؤتمرات تعد بحنكة " أو بغباء بالنسبة لي " لتجميل صورة ملائكة الأرض أعضاء الحزب الوطني المستعمر لأرض مصر .
إذاً أين هو الذي استثارني وجعلني أستشيط غيظاً من هذا المؤتمر إذا كنت أنا معتاد منهم على الكذب والتدليس والضحك على الذقون والبلطجة السياسية أو " الداخلية " ؟!
الذي يفقع المرارة هو أنك ترى مسئولي وطنك أو بمعنى أدق " مغتصبيه " يتحدثون عن إنجازاتهم في وطن محصلة وضعه الحالي صفر ، يتحدثون عن ارتباطهم الوثيق بالمواطن البسيط وهمومه وهم حتى لا يعلمون عن مشاكله سوى قليل القليل .
في كل مرة كنت أبلع مائة شوال أحذية ماركة " بلغة " وأحياناً ماركة " قبقاب " وأنا أسمع أكاذيبهم ، لكن هذه المرة لم أستطع أن أبلع ما يقولونه وهذا ليس بسبب نفاد مخزون " البلغ والقباقيب " القابلة للبلع عندي ، بل لأن وضع مصر الحالي كارثي بأدق ما تحمله الكلمة من معنى ولا يحتمل السكوت .
فحجم الكوارث والنكبات والتدهور يزداد بمقدار الضعف عن كل عام ، وهم يتعاملون بمنتهى البرود مع هذا الوضع المأساوي ، لا يفكرون سوى بنهب المزيد من هذا الوطن وسحل شعبه وتدمير مستقبله أكثر فأكثر .
عودة إلى المؤتمر الصحفي البائس وإلى الأسئلة التي طرحها مراسل الجزيرة حسين عبد الغني فهي أهم ما قيل ضمن ساعة وربع من السخافات ، دعوني أتوقف أمام الإجابات التي قالها نابغة مصر الأول ووريث عرش مصر ، الفرعون المعظم " جمال مبارك " .
السؤال الأول كان يتعلق بمحاربة الفساد والاحتكار وكانت إجابة السيد جمال هي أن الحزب يحارب الفساد والفاسدين وأنه لم يساند فاسداً قط من قبل وأن القضاء بخير إلى آخره من كلام الإنشاء المحفوظ ، ولكم كنت أتمنى أن يعقب أ. حسين على كلام الوريث ويسأله عن يوسف والي راعي السرطان ومستورده المرفوع عليه مئات القضايا والذي لم يستطع أي قاضي أن يحضره ولو لمرة واحدة إلى قاعة المحكمة ، وكذلك الفاسد وزير الإسكان إبراهيم سليمان الذي أضاع على الدولة مليارات الدولارات في " كرشه النتن " والذي مثله مثل والي مرفوع عليه العديد من القضايا بسبب فساده ولم يحاكم ، أو كيف خرج النائب هاني سرور صاحب أكياس الدم الملوثة من خلف القضبان بعد " قتل " المستشار العشماوي القاضي المكلف بقضيته ! ، أو حدثنا عن كيف تم تهريب ممدوح إسماعيل من مصر وكيف أن القضاء والمدعي العام الاشتراكي والنائب العام كلهم متواطئون معه ويساعدونه على زيادة معاناة أهالي الضحايا أضعافاً مضاعفة وكيف كانت له كل هذه السلطة قبل أن تحدث حادثة العبارة المشئومة وهو مجرد نائب في مجلس الشورى ! ، أو حدثنا عن تهريب الآثار وفاروق حسني ، أو كيف تم تعيين قواد سابق وزيراً للإعلام ومن ثم رئيساً لمجلس الشورى بعد فصله سابقاً بفضيحة عام النكسة 1967 ، وكيف أن شخصاً مثل أحمد عز يتحكم في مصير ملايين من الشباب باحتكاره لسلعة هامة مثل الحديد ،وكيف وكيف وكيف ...
السؤال الثاني كان حول جدوى تنفيذ فكرة الضرائب المتصاعدة بدلاً من الوضع الضريبي الحالي ، وبعيداً عن " لك وعجن " السيد جمال مبارك ، فأي قانون ضرائب لن يؤتى بثماره في مصر إلا إذا كانت هناك آلية أفضل لتحصيل الضرائب من تلك الآليات السخيفة والتي تمنح مأمور الضرائب سلطة مطلقة في إذلال وابتزاز أصحاب المال .
السؤال الثالث حول الاستفادة من اقتراحات المعارضة في تحسين الوضع الاقتصادي وأنا أتوجه لحسين عبد الغني متهكماً وللسيد جمال سائلاً عن مدى الاستفادة التي تستفيد منها الدولة من المجالس القومية المتخصصة التي نفيت إليها كمال الشاذلي ليكون مشرفاً عليها والتي تحتوي على أفضل عقول مصر وتقدم تقاريراً سنوية في كافة المجالات لحل كثير من الأزمات ولكنها للأسف تلقى في القمامة ولا يعيرها أحد أي اهتمام ! ، إذا يا سيد حسين عن أي تعاون مع المعارضة تتحدث ؟! ، أليس من باب أولى التعاون مع المجالس القومية المتخصصة الحكومية وهي الجهة الرسمية المنوط بها وضع الحلول لأزمات الوطن ومشاكله .
أما السؤال الأخير عن التوريث فكانت إجابة السيد جمال عبارة عن استظراف وتهكم كعادته عندما يلقى عليه هذا السؤال الذي يؤرق مضاجع المصريين الذين يتخوفون من استمرار الحكم " المباركي " ثلاثين عاماً أخرى ..وإذا كان هذا السؤال محط سخرية منك يا سيادة الوريث فهو محط اهتمامنا لأننا ننتظر وبفارغ الصبر الخلاص من الحكم الجائر لأبيك ولسنا على استعداد لنتحمل المزيد معك .
هناك سؤال هام طرحه الصحفي محمود بكري لكن بسبب ضعف مستواه الصحفي المهني والثقافي استطاع جمال أن يتخلص من هذا السؤال ببراعة الأفاقين ، وهذا السؤال عن خبر جاء في جريدة الأهرام " الحكومية " عن أن هناك تقريراً يشير إلى رغبة الشباب المصري في ترك البلد وأن ولاءه لمصر أصبح في مهب الريح ، وبالرغم من تملص السيد جمال من الإجابة عن هذا السؤال الهام إلا أنني أقولها للأسف أن هذا الخبر صحيح مائة في المائة ، فهذا يا سيادة الوريث عهد الصفر ، إيمان الشباب بمستقبل في وطنهم هو في نظر الجميع أقرب للكفر ، وأنه لن يقدم لهم وطنهم شيئاً في يوم ما يستوجب عليه الشكر .
كنت أتمنى أن أجد صحفياً من ضمن الصحفيين يتناول بعض حبات " البرطعة " ويقوم بسؤال السيد جمال عن التعذيب في السجون الذي يصل إلى القتل وعن الحد من الصلاحيات المطلقة لضابط الشرطة المصري والذي تجعله إلهاً في زمن العولمة وعن مدى مشروعية ودستورية اعتقال الصحفيين وأصحاب الرأي والمعارضة وبالأخص أعضاء جماعة " الإخوان المسلمون " ، كنت أتمنى أن يسأله أحد عن وضع التعليم السيئ في مصر والذي هو عبارة عن سلخانة يتم تعذيب الأطفال فيها وتربيتهم على الذل والخضوع والخوف وإغلاق العقل وكره العلم والإبداع والابتكار ، فكيف نتحدث عن تنمية وطن ومستوى تعليمه أحط من قدر إبليس لدى رب العزة ! ، كنت أتمنى أن يسأله أحد عن وضع مصر السياسي المتدهور والذي أثر بالسلب على قيمة المواطن المصري خارج مصر وجعلته في المراتب الدنيا من الجنسيات .
لقد حصلت مصر على 50% في عام 1970 وهي في حالة حرب وجزء من أرضها محتل واقتصادها قائم على الاشتراكية ولا يساندها أحد من الدول العظمى غير دولة واحدة وهي الاتحاد السوفييتي ، أما الآن فقد حصلت على صفر وهي في حالة سلام وأرضها محررة بالكامل واقتصادها رأسمالي يدعم الاستثمارات ( كما يدَّعون ) وهناك انفتاح سياسي على كل دول العالم بما فيهم إسرائيل ! .
إذا أين الخلل في مأساة هذا الوطن ؟!

هناك تعليقان (2):

حسن محمد محمد يقول...

مقال أكثر من رائع بارك الله فيك

المشخصاتي يقول...

العفو يا جميل :)
شرفني حضورك